يعيش الناس عموما معركة فكرية حول نظرية تشغل أذهانهم، تعرف بـ “نظرية المؤامرة” القائمة على افتراض: أن المشاكل الكبرى والنزاعات الضخمة التي تعيشها امة من الأمم أو شعب من الشعوب تعود أسبابها الحقيقية إلى نشاط مجموعة من الأفراد أو الجماعات التي تعمل سرا على تسبيب تلك المشاكل والنزاعات لغايات معينة.
ولا ريب أن امة الإسلام لم تشذ عن التفكير بهذه النظرية، باعتبار أن التمزيق والهوان الذي يعيشه المسلمون منذ فترة طويلة يشكل هاجسا لكل مسلم يهمّه تحقيق العز والقوة التي تليق بالأمة التي اتبعت هذا الدين العظيم.
فهذه المشاكل الكبيرة التي يعيشها المسلمون بشكل عام، هل تفسر اسبابها نظرية المؤامرة؟ أم أن مسألة المؤامرات لا دخل لها في الموضوع، وكل القضية تخضع لانتعاش الأمم وسقوطها عبر التاريخ، وان كل حضارة مهما بلغت من النضج والتطور لا بد لها يوما من تصاب بالهرم عاجلا أم آجلا وفق السنن والقوانين الطبيعية التي تحكم العالم؟
ويبدو أن المعركة الفكرية في حسم أي الآراء – في دعم هذه النظرية أو تفنيدها- أمر لا ينتهي، فلكل طائفة من المعارضين أو الداعمين لهذه النظرية شواهد وأدلة تاريخية واجتماعية تدعم ما يرونه صحيحا، وليس هذا المقام للترجيح بين أقوال أي من الطرفين.
ولكننا كمسلمين، لدينا في تراثنا الإسلامي دستور الهي نؤمن بصحته ونعتقد بعصمته عن الخطأ، ذلك هو القران الكريم، الذي يمثل قوله الفصل في كل الأمور، فهو كما صرح في العديد من آياته الشريفة- الفيصل بين الحق والباطل، والنور والظلام، والحقيقة والشبهات، وحري بالمسلمين قاطبة أن يزنوا كل مفردات حياتهم وأحداثها وفقا لمعطيات كتاب الله لمعرفة الصواب من الخطأ دون ريب وتردد، قال الإمام علي بن ابي طالب(عليه السلام): (وَاعْلَمُوا أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ هُوَ النَّاصِحُ الَّذِي لَا يَغُشُّ وَالْهَادِي الَّذِي لَا يُضِلُّ وَالْمُحَدِّثُ الَّذِي لَا يَكْذِبُ، وَمَا جَالَسَ هَذَا الْقُرْآنَ أَحَدٌ إِلَّا قَامَ عَنْهُ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ: زِيَادَةٍ فِي هُدًى أَوْ نُقْصَانٍ مِنْ عَمًى، وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى أَحَدٍ بَعْدَ الْقُرْآنِ مِنْ فَاقَةٍ، وَلَا لِأَحَدٍ قَبْلَ الْقُرْآنِ مِنْ غِنًى) نهج البلاغة – الخطبة 176 .
القران الكريم حي لا يموت
وقد يواجهنا في بادئ الأمر إعتراض مفاده: إن الحقائق التي يتحدث عنها القران الكريم – وبخاصة في القضايا الاجتماعية واشكالياتها- إنما تختص بعصر نزول القران الكريم أو العصور القريبة منه، وليس من السليم أن نحدد أمرا اجتماعيا معاصرا وفق منظوره وتصريحاته التي مر عليها أكثر من ألف وأربعمائة عام من الزمان.
والجواب عن هذا الاعتراض ميسور إذا علمنا بأن معطيات القران الكريم جاءت شاملة لكل العصور، لأنه لما كان هذا الكتاب معجزة خاتم الأديان الخالدة، فلا بد من أن تكون آياته فعّالة على مر الدهور، ولا بد من ان تبقى حقائقه غضة طرية تلبي احتياجات الناس في كل عصر ومكان.
ويشهد على هذه الحقيقة ما روي عن الإمام محمد بن علي الباقر(عليه السلام) حيث قال: (إن القرآن حي لا يموت، والآية حية لا تموت، فلو كانت الآية إذا نزلت في الأقوام ماتوا ماتت الآية؛ لمات القرآن، ولكن هي جارية في الباقين كما جرت في الماضين) “بحار الأنوار – العلامة المجلسي – ج 35 – ص 403″، وروي عن الامام جعفر بن محمد الصادق(عليه السلام) انه قال: (إن القرآن حي لم يمت، وإنه يجري كما يجري الليل والنهار، وكما يجري الشمس والقمر، ويجري على آخرنا كما يجري على أولنا) بحار الأنوار – العلامة المجلسي – ج 35 – ص 403.
فالقران الكريم وضع خطوطا عامة تبين الواقع التاريخي في جميع الأزمنة، ويتخذ من الأمثلة المعاصرة له منطلقات تكشف عن مثيلاتها من الحوادث الماضية والمستقبلية، والبحث التاريخي عندنا يؤيد هذه الحقيقة، باعتبار أن التاريخ يعيد نفسه.
ما نفهمه من القران حول المؤامرة
الذي يتتبع آيات القران الكريم التي تخص هذا الموضوع يجد: أن الكثير منها يتحدث عن وجود جماعات من الناس يحوكون خيوط الإيقاع بأمة الإسلام، ويحاولون تجريد المسلمين عن حقيقة إيمانهم، ويسعون جاهدين لإضعافهم واستهداف رموزهم، وذلك لأسباب عديدة، أهمها: حرص هؤلاء المتآمرين على تحقيق مصالح ومكاسب ذاتية، ومنع أي احد – مهما كان- من مشاركتهم إياها، إذ أن مثل هذه المصالح تتوقف عليها السيطرة على مصادر القدرة والقوة والرفاهية، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.
على انه ليس شرطا أن يكون المتآمرون أمما أو شعوبا كبيرة ذات ثقافات ومعتقدات غريبة عن امة الإسلام، فأحيانا نجد أن القران الكريم يعطينا صورا عن جماعات صغيرة ومغمورة تتحرك سرا في قلب الأمة للإجهاز على عقيدتها، وهذه الصورة هي أفضل مثال على “نظرية المؤامرة” كما لا يخفى.
ما المؤامرة ومن المتآمرون؟
بمراجعة سريعة لمجمل الآيات الكريمة في القران الكريم نفهم بأن أكثر الطوائف التي عملت على نسج خيوط المؤامرة ضد المسلمين هي ثلاث طوائف رئيسة هم: المشركون، المنافقون، واليهود، وربما كانت الطائفة الأخيرة هي الأكثر نشاطا في هذا المجال، ولدينا في تاريخ الإسلام ما يؤيد هذه الحقيقة.
فابتداء من اتفاق المشركين على اغتيال رسول الله(صلى الله عليه واله) وتحالف اليهود معهم للقضاء على الدولة الإسلامية الفتية، وصولا إلى تولي المنافقين مناصب حساسة في أجهزة حكم الدولة الإسلامية، وتقرب شخصيات يهودية الأصل من تلك المراكز، كانت المؤامرات تنسج بأساليب وأشكال مختلفة، وكلها تتفق على هدف واحد: القضاء على الإسلام وأهله، أو على الأقل إذلالهم.
وكم من الآيات التي إذا تأملناها جيدا نعرف بأن حركة أعداء هذا الدين كانت تعبق بالمؤامرات، والعديد من الآيات المباركة جاءت لتنبه المسلمين على نشاطات أولئك المتآمرين، قال تعالى: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) الأنفال/30
وقال عز من قائل: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) التوبة/107
وقال: (آلم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد انهم لكاذبون) الحشر 11
وقال: (وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السَّوْءِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) التوبة/98
وقال: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاؤُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ) المجادلة/8
وقال سبحانه: (هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ. إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا..) آل عمران/119- 120
الإفراط في معطيات النظرية
من الجدير ذكره أن الكثير من المسلمين قد اندفعوا في التحمس لنظرية المؤامرة، حتى صاروا يؤمنون بان اليهود أو الماسونيون أو الغربيون وعملاؤهم – أو من تشير إليهم النظرية بأصابع الاتهام- هم وراء كل سوء يحدث في العالم، وان كل حدث صغيرا كان أم كبيرا لا يقع إلا بتخطيط وتدبير هؤلاء، وكأنهم هم الآلهة التي تتحكم بمصائر شعوب العالم كما تحب وتشتهي.
وقد دفع التطور التقني -الذي تشهده الدول العظمى- نظرية المؤامرة دفعة قوية حتى صارت تتصدر الذهنية التحليلية لدى عامة الناس بشكل عجيب، بصورة تجعلنا نشك أحيانا بان نفس هذا التوجه الفكري له من يغذيه في الخفاء لتخويف الناس من بطش وسطوة تلك الجهات.
إن المعطيات القرآنية توجهنا خلافا لهذه النظرة المفرطة، والدراسات التاريخية الملموسة تبين لنا ان العديد من الدول التي تحتضن المتهمون بالتآمر قد عانت من ويلات الحروب والنزاعات والتشتت فيما بينها – وبخاصة في القرن العشرين- الأمر الذي يعني أن العديد من الحركات العالمية تقع خلاف تدبيرهم، أو على الأقل تفلت من نطاق سيطرتهم.
ولدينا في القران الكريم ما يشير صراحة إلى هذه الحقيقة، قال تعالى: (وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) المائدة/64 وقال تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ) الأعراف/167 وقال تعالى: (بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ) الحشر/14 وقال تعالى: (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) الأنفال/30
في النهاية.. الأمر كله لله
إن الوقوف على حقيقة ما في أنفس أعداء الإسلام من حقد أعمى أمر مخيف، وبخاصة أن هؤلاء لا يتورعون عن سلوك أي سبيل من اجل تحقيق مآربهم الدنيئة، فكل خبائث الأفعال لا يجدون عنها مانعا لتحقيق غاياتهم الشريرة.
ولكن ينبغي للمؤمنين بالله تعالى حق الإيمان أن لا يؤرقهم هذا الأمر كثيرا، فقد جاءت البشرى على يدي القرآن الكريم بأن العديد من مؤامرات هؤلاء مردودة إلى نحورهم، وان الله تعالى كثيرا ما يقلب عليهم مكائدهم التي ينصبونها لأتباع الحقيقة، ويشهد على ذلك عدد كبير من آيات الله الكريمة كقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ)الحج/38 وقال تعالى: ( قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ) النحل/26 وقال تعالى: (لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاء الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ) التوبة/48 وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) الأنفال/36.
نعم، على المسلمين كافة أن يلتفتوا إلى أن مصدر قوتهم ونجاتهم من هذه المؤامرات تكمن في تمسكهم الحق بدينهم بعيدا عن الهوى والاختلاف، وتوكلهم على الله سبحانه حق التوكل انطلاقا من إيمانهم بإرادة الله القاهرة، وان لا تأخذ بأبصارهم زينة الحضارة المعاصرة، وليعلموا إنما هي فتنة الخالق سبحانه ليتبين الذي يشكر من الذي يكفر، قال تعالى: (وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ) آل عمران/178.
وليتخذ المسلمون من التاريخ عبرة، حينما التزموا بكتاب الله العزيز منهاجا، فوُطّئت لهم أكناف الأرض شرقها وغربها، وصاروا أسياد العالم بعد أن لم يكونوا شيئا مذكورا..
إن الصبر والتقوى فيهما المخرج الوحيد من كيد المتآمرين، وقد قال تعالى: (وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) آل عمران/120
حيدر محمد الكعبي